العالم العربي أمام مفترق طرق- نظام جديد أم نكبة جديدة؟

شهد العالم العربي تطورات هامة خلال الشهرين الماضيين، تميزت بتحولات مفصلية تنطوي على آمال وتحديات جمة. من بين هذه التحولات، برز احتمال سقوط نظام بشار الأسد في سوريا، ووقف إطلاق النار في غزة، وعودة الحياة السياسية في لبنان إلى مسارها الطبيعي عبر انتخاب رئيس جديد. هذه التطورات تمثل بصيص أمل وبداية حقبة جديدة، إلا أن هناك مخاوف تلقي بظلالها الداكنة، قد تعيق هذه الآمال وتدفع المنطقة إلى منعطفات خطيرة، من بينها تصريحات الرئيس الأميركي ترامب المثيرة للجدل، والتي لوح فيها بـ "تنظيف" غزة، أي إجلاء الفلسطينيين منها بشكل كامل.
هذا التصريح، الذي يحمل في طياته دلالات خطيرة، يجب أن يؤخذ على محمل الجد، خاصة مع تكراره خلال زيارة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو إلى البيت الأبيض، مما يعكس رغبة الولايات المتحدة في بسط نفوذها على قطاع غزة لفترة طويلة الأمد.
قبل هذه التصريحات، كانت هناك فرصة سانحة أمام العالم العربي، لكي يؤسس لنظام عربي جديد، يتسم بالاستقلالية والقدرة على اتخاذ القرارات السيادية، ويقوم على الحد الأدنى من التعاون والتضامن وتنسيق المواقف وتسوية الخلافات.
ومع ذلك، يشهد العالم العربي انقساماً وتشتتاً في المواقف منذ عام 1979، بسبب حدثين تاريخيين مؤثرين:
أولهما: اتفاقية كامب ديفيد، التي أحدثت شرخاً عميقاً في الصف العربي، وأدت إلى قيام جبهة الصمود والتصدي وعزل مصر عن محيطها العربي.
وثانيهما: الثورة الإيرانية، وما تبعها من حرب دامية بين العراق وإيران، والتي ألقت بظلالها السلبية على العالم العربي، وزادت من حدة الانقسامات والتجاذبات. ومما زاد الطين بلة، غزو نظام صدام حسين للكويت، الذي قضى عملياً على النظام العربي.
لم يتمكن النظام العربي من استعادة عافيته منذ ذلك الحين، كما أن التنظيمات الإقليمية التي تأسست قبله لم تصمد طويلاً؛ فمجلس التعاون العربي، الذي ضم مصر والعراق والأردن واليمن، انهار مع غزو الكويت عام 1990. وكذلك "اتحاد المغرب العربي"، الذي انتهى فعلياً مع فرض المغرب قيود التأشيرة على المواطنين الجزائريين عام 1994، وإغلاق الحدود البرية من قِبل الجزائر.
وفي هذا السياق الجديد، تلوح في الأفق فرص واعدة، خاصة مع ما تشهده سوريا من انتقال سلس للسلطة، وإمكانية تحقيق مصالحة وطنية شاملة مع محيطها الإقليمي. ويمكن لسوريا أن تلعب دوراً محورياً في بناء نظام عربي جديد، بعيداً عن التدخلات الخارجية، وبما يعزز الدور العربي الفاعل في إدارة شؤون المنطقة.
إلا أن الخطر ما زال قائماً، حيث يهدد استمرار التشرذم والانقسام بإفشال أي محاولة لإقامة نظام عربي بديل، خاصة مع التلويح الأميركي بـ "تطهير" قطاع غزة وتهجير سكانه، والضغط على مصر والأردن لقبول "استقبال" الفلسطينيين من غزة، بحجة أن الولايات المتحدة قدمت لهذين البلدين مساعدات كبيرة، وبالتالي يجب عليهما القبول بالعرض الأميركي. وفي المقابل، يمكن تفسير ذلك على أنه تهديد مبطن بوقف المساعدات المالية والعسكرية والتعاون الأمني، وفرض شتى أنواع الضغوط عليهما.
إن مصطلح "التنظيف" ليس سوى نسخة حديثة من فكرة قديمة، وهي الترانسفير، التي تعود إلى بدايات الحركة الصهيونية، منذ عهد بن غوريون، والتي كشف عنها المؤرخون الجدد، وتم التراجع عنها في ظل المتغيرات الدولية. لكنها عادت للظهور مجدداً في خطاب اليمين المتطرف الإسرائيلي، ويعتبر قانون القومية لسنة 2018 أحد تجلياتها، وفق قاعدة "شعب واحد، دولة واحدة، لغة واحدة، ولا مكان لأقلية أخرى".
ولم يخف اليمين الإسرائيلي نواياه تجاه الضفة الغربية، من خلال تكثيف الاستيطان وتهويد المنطقة، واستغلال الحرب على غزة للتنصل من الالتزامات التي أبرمها منذ اتفاق أوسلو، والتي كانت تهدف إلى حل الدولتين. وظهرت في خضم الحرب خطة تهدف إلى إخلاء غزة وإعادة إعمارها وتحويلها إلى منطقة مزدهرة على غرار دبي أو سنغافورة. وقد صرح جاريد كوشنر، صهر الرئيس الأميركي السابق، في محاضرة له بجامعة هارفارد في ربيع العام الماضي، بأن الواجهة البحرية لغزة لديها إمكانات هائلة لتحقيق هذا الهدف.
إن خيار إفراغ غزة من سكانها يمثل نكبة جديدة، تقضي على الشعب الفلسطيني وقضيته العادلة، وتلتف على حقوقه المشروعة، إذ كيف يمكن الحديث عن شعب بلا أرض وهوية؟
إن إفراغ غزة سيقضي على أي فرصة لإقامة نظام عربي قوي وموحد، وسيدخل المنطقة برمتها في دوامة من الاضطرابات والتوترات، التي لن تقتصر على زعزعة استقرار المجتمعات، بل قد تتعدى ذلك إلى نقل التوتر إلى خارج المنطقة، في فصول مروعة من صراع الحضارات والإرهاب والتطرف.
نعلم أن النكبة الأولى أحدثت تغييرات جذرية في الثقافة السياسية في المنطقة، وكانت أحد الأسباب الرئيسية التي دفعت الجيش إلى تولي السلطة في كثير من البلدان، وتمت تصفية الخصوم والمعارضين، مما شرّع للإرهاب والعنف السياسي، وأجهض المد الليبرالي العربي، من خلال وقف التجارب الديمقراطية (في مصر والعراق وسوريا)، وتقويض التوجهات الكونية والإنسانية التي كانت الثقافة العربية تدعو إليها.
ويمكن تصور الانعكاسات المحتملة لنكبة جديدة، حيث سيكون من العبث بناء نظام عربي جديد، في ظل استمرار سياسات التهجير والتطهير العرقي.
ولذلك، يجب على الدول الحليفة للولايات المتحدة أن تتحد في مواجهة هذه التهديدات، وأن تتخذ موقفاً موحداً للدفاع عن مصالحها وحقوقها. ولا بد من عقد قمة عربية طارئة، للحديث بصوت واحد حول هذه القضية المصيرية، والتباحث حول الوضع الإقليمي بشكل عام.
ومثلما اتحدت دول الاتحاد الأوروبي في مواجهة رغبة الرئيس الأميركي في وضع يده على جزيرة غرينلاند، يجب على العالم العربي أن يتحدث بصوت واحد، للدفاع عن قراره السيادي، ومنع أي تدخلات خارجية من شأنها أن تدخل المنطقة في دوامة من الاضطرابات.
لقد عبرت الدول المؤثرة في العالم العربي عن رفضها لقرار "التنظيف" على مستوى وزراء الخارجية، وهي المملكة العربية السعودية ومصر وقطر والإمارات العربية المتحدة. ويتعين الآن عقد قمة عربية طارئة، لبحث المستجدات الإقليمية والدولية، والتنسيق بين دول الطوق، والدولة المعنية، للحديث بصوت واحد وموحد. فالإدارة الأميركية تحاول دائماً اللعب على التصريحات المنسوبة إلى المسؤولين العرب، مما يثير البلبلة ويقوض إمكانية اتخاذ موقف موحد.
ومن جهة أخرى، يجب على الدول الدائمة العضوية في مجلس الأمن أن تخرج عن صمتها، وأن تتحمل مسؤولياتها في مواجهة هذا الاستفراد بالقرار الدولي والتحلل من القانون الدولي وإضفاء الشرعية على منطق القوة.
نعم، هناك حاجة ملحة لإعادة إعمار غزة، ويتوجب عقد مؤتمر دولي لهذا الغرض، وأن يقترن إعادة الإعمار بحق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره.
فتاريخ المنطقة حافل بالفرص الضائعة، ولا ينبغي أن تفوت هذه الفرصة السانحة، بوضع حد لهذا "الحلم" المزعوم، الذي قد يحول المنطقة إلى كابوس مرعب.